سلوك المؤمنة إلى الله

إن اتباع هوى النفس يحجب نور اتباع السنة الشريفة فيفنى عمر المرء في إعراض وغفلة. ما السبيل إلى أن يكرمنا الله سبحانه بنفحات فضل من حضرته، ويقربنا إلى ساحات رضوانه، ويسلك بنا مسلك الأحباب، ويجعلنا من خواص أهل الاقتراب ويفتح لنا الباب، ويحرك فينا همة الإقبال عليه، والتذلل بين يديه؟
معنى السلوك إلى الله
قال الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم:قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني 9 ذلك السبيل عقبة تقتحم، وليكون سلوكنا على ذلك السبيل، على ذلك الصراط المستقيم، سلوكا على بصيرة، واقتحاما على هدى لا على تخبط، على علم لا على ظن، على حق وسنة لا على هوى وبدعة، نحتاج لمعالم وأمارات على الطريق، نتأكد بها أننا لم نزغ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:“إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق” 10 الصوى جمع صوة وهي الحجارة التي تعلم بها الطريق.
فهو سلوك إذن، سير وطريق تقطع مسافاتها، وغاية يسعى إليها. ما هي طريق معبدة سهلة، بل هي طريق وعرة، عقبة. من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البيهقي وابن سعد عن أبي البجير:“ألا وإن عمل الجنة حزن بربوة، ألا وإن عمل النار سهل بسهوة” 11 أن تجدي أيتها الحبيبة باعث الإرادة في قلبك، وشوقا للإقبال على ربك، وحبا في طلب رضاه، وتحققا من مقام العبودية له سبحانه، ورغبة في تطهير النفس من رعوناتها، والأعمال من قوادحها، فذاك محض سلوكك.
يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:“ألا إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها” 12 توجيه نبوي كريم رحيم لاغتنام فرص التعرض لنفحات رحمة الله وحسن تأييده، وتعبيده الطريق لك لتتقربي إليه.
أول السلوك توبة تفرح المنان
تقدم معنا في مقال سابق كيف أن التوبة قلب دولة… قلب دولة النفس الأمارة بالسوء لتذعن لأمر ربها وتستجيب لداعي التقوى، ولعالم السر والنجوى، صدقا وعدلا، فكانت بذلك التوبة أول مقامات الإحسان حتى قيل، “من لا توبة له فلا سير له إلى الله”.
توبة تورث ذلا وانكسارا، وخشية وافتقارا، وحياء وتطهيرا، يهيئ إلى منزلة المحبوبية عند الله المنان. عند الشيخين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم:“لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دويه (قاحلة) مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده”الله الله من توبة تفرح الله الكريم المنان، وترفع إلى مقام المحبوبية “إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين”.
الله الله من توبة مؤمنة دفعها حب الله، والحياء من الله، من التمادي في حياة الغفلة والدعة والكسلان إلى طرق أبواب الرحمن، بهمة متقدة وإرادة متحفزة وقلب متيقظ مشتاق.
يا رب من أصحب ؟ من الدليل ؟
كلمات منيرة صادقة أطلقها الشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني وهو يوجه إلى ضرورة الوقوف بباب الرحيم الهادي سبحانه، تستخيرينه عند نوم العيون وسكون الهمم، يخاطب فيه الرجال وأنا لك مخاطبة بخطابه أختي :ثم تقبلين على صلاتك، تفتحين باب الصلاة بطهورك، وباب ربك بصلاتك. ثم اسأليه بعد فراغك، من أصحب؟ من الدليل؟ من المخبر عنك… هو كريم لا يخيب ظنك) 13
أعظم السلوك سلوك الصحابة والصحابيات رضي الله عنهم، سادات الأمة ومناراتها، فضلوا الناس بتلمذتهم المباشرة للحبيب المصطفى صلى عليه وعلى آله وسلم، فرشفوا من معين صدقه، وعظيم فضله، وقوة عزمه، وجميل طبعه.
ما فتئ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحثهم على مجالس الخير والنور، وأماكن الفرح والحبور، مواقع النجوم الهادية والصحبة المباركة الطيبة كما في الصحيح: “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل”حتى صار ديدن من تربى في حجر النبوة ومن تبعهم بإحسان، البحث عن هذه التلمذة النورانية. روى الإمام مالك في الموطأ والحاكم وابن عبد البر بسند صحيح عن أبي إدريس الخولاني أحد كبـــار التابعيــن قــــال: دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى براق الثنايا، والناس حوله فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا من رأيه فسألت عنه فقالوا: هذا معاذ بن جبل فلما كان الغد هجّرت إليه فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي فانتظرته حتى قضى صلاته ثم جئته من قبل وجهه، فسلمت عليه ثم قلت: والله إني لأحبك في الله فقال: آلله فقلت آلله، قال آلله فقلت: آلله فقال: الله فقلت الله، فأخذ بحبوة ردائي إليه وقال: أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى:)“وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في”
لاغنى لنا أختي، أن نحب في الله، ونتزاور في الله، ونتباذل في الله، ونصحب في الله من يدلنا على الله، فتلك وصية نبوية عظيمة لمن أراد الفلاح إذ المرء مع من أحب.
الأصل في الإقبال على الله اتباع السنة والعمل بالشريعة
عمل للمرء يرجى عند ربه إلا إذا ارتبط بما أمر سبحانه، بما دل عليه رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، تعرض المؤمنة عملها على شرع الله لتستبين ما تفعل وما تذر، تحاسب نفسها لتأتي ما يسر ولا يضر، وتستيقن أن العمل وسيلة لا غاية، قال سيدي عبد القادر الجيلاني:لابد منك وبك لا نصل)، به تظهرين الطاعة، وتتذللين بين يدي المولى، تسترحمينه، تستعطفينه، تستغفرينه وتنكسرين بين يديه طلبا لوجهه العظيم، وأعظم بها من طلبة، تسألين ذا الجلال خواص المراتب العوال، وقلبا يسعى إلى التطهير، ونفسا تصدق معه في المسير، تتذللين إليه ألا يدع فيها بقية إلا ملأها بسرابيل أنواره، وأردية جوده وكرمه وإحسانه.
ومع العمل، تخليص الوجهة للحق سبحانه وتعظيم النية، لنيل محبته وقربه بالإتباع
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله 14 ومع هذا وذاك، احرصي أختي دائما على شكر المنعم على ما تفضل به عليك من حسن التوفيق، وحذار من الاغترار بكثرة الطاعة، فتظنين من نفسك الكمال.فرب معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا)كما قال ابن عطاء الله السكندري في حكمه، ولعل في قصة أبينا آدم الذي نسي فعصى، وإبليس الذي استكبر وأبى، أعظم العبرة.
إحسان التبعل وإكرام ذوي الرحم باب عظيم من أبواب السلوك إلى الله
في رسول الله صلى الله عليه وسلم البر الرحيم المعلم الكريم، خير أسوة وأعظم قدوة في الإحسان إلى الأهل والقرابة وخلق الله كافة.
عند أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه، فقعد عليه، ثم أقبلت أمه من الرضاعة، فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر، فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه، وقال لمن أراد أن يتوب من ذنب عظيم أصابه:“هل لك من أم ؟” قال: لا، قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم قال: فبرها” 15 سبحان الله، إحسان يورث ارتقاء، وتوبة يقبلها الغفور بإكرام ذوي الرحم، ثم دماثة خلق تورث عند الله سبحانه قرب منزل من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث.
أخلاق تزداد إليها الحاجة إن كانت مع أقرب المقربين: الزوج، وزوجه.
من يعلم الأزواج إذن أن إحسان بعضهما إلى بعض باب عظيم من أبواب الإقبال على الله؟
من يعلم الأزواج أن الارتقاء في مدارج الإحسان لا يكون بكثرة الصيام والقيام والذكر والاستغراق في العبادة، والقلب خواء من الرحمة، والمرء بعيد عن عظيم الخصال وجميل السجايا؟
من يخبر الأنانيين من الأزواج والمتفرعنات من النساء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله (المهنة: الحذق بالخدمة) حتى إذا حضرت الصلاة خرج إليها، وأن الزهراء سيدة نساء العالمين، كانت تخدم أهلها حتى أثر حبل القربة في نحرها الشريف ومجلت يدها من شدة الطحن، فدلها صلى الله عليه وسلم لما سألته الخادم على التسبيح والتكبير والتحميد هي وزوجها إذا أويا إلى الفراش.
ما أعظم هذا الدين ! ذكر الله ييسر به الله العمل، وخدمة تقرب إلى الله زلفى وحسن مآب.
تجددين النية أختي، فتنقلب العادة عندك إلى عبادة، تعبدين الله وأنت تصومين وتصلين وتذكرين ربك وتعتنين بكتابه وتصبرين على الطاعة، تعبدين الله وأنت في خدمة أهلك، وأنت تصونين أبنائك وتربينهم، تعبدين ربك وأنت تكرمين قرابتك وتتزينين وتحسنين تبعلك وتدخلين الفرحة على من حولك… في كلٍّ قربة وسلوك. عن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:“من لقي أخاه المسلم بما يحبه ليسره بذلك، سره الله عز وجل يوم القيامة” 16
همسة في أذنك أختي
رجاؤنا من هذا المقال وما يليه إن شاء الله، خطب ودك أختاه، حتى تشتبك أيدينا بيدك، فنجلو عنا غسق الغفلة والظلمة، فتنجمع همومنا وتتوحد، تطرق اليقظة أبواب قلوبنا، لنهبّ معا نحاسب النفس ونراجع ونتابع، عسى حرقة الشوق وهبة الفؤاد، تثمران يقظة إحسانية، تجعل قضيتنا مع ربنا أم القضايا وحسن الخلق أحسن المطايا التي تسلك بنا إلى أعظم غاية وأكرم قصد: إرادة وجه الله الكريم.
فها قد مددنا الأيادي، فمدي يدك أختي، ولا تؤجلي ولا تخافي فالبلدة طيبة والرب كريم.
ثم… لا غنى عنك أخي في سفرنا هذا… سفر العبد إلى مولاه.
[2] رواه الحاكم عن أبي هريرة
[3] حديث حسنه السيوطي
[4] الطبراني في المعجم الكبير.
[5] الفتح الرباني ص 330
[6] آل عمران الآية31.
[7] رواه الترمذي عن ابن عمر.
[8] أخرجه الطبراني في الصغير بإسناد
[9] يوسف الآية108
[10] رواه الحاكم عن أبي هريرة
[11] حديث حسنه السيوطي
[12] الطبراني في المعجم الكبير.
[13] الفتح الرباني ص 330
[14] آل عمران الآية31.
[15] رواه الترمذي عن ابن عمر.
[16] أخرجه الطبراني في الصغير بإسناد