معالم في السلوك إلى الله تعالى 2
اليقظة القلبية
التوبة وشروطها:
إن أول خطوة يخطوها المرء في إقباله على الله عز وجل هو التوبة والإنابة استجابة لنداء الله سبحانه وتعالى وتلبية لبلاغ النبي صلى الله عليه وسلم.
وما التوبة والإنابة وتلبية البلاغ النبوي إلا رجوع من عالم الغفلة عن الله، عالم تكتنف المرء فيه غمامات الكآبة وظلمة اليأس، ويغلف قلوب العباد فيه حجاب ضيق مرباد مما يخيم على قلوب الغافلين عن الله من خيالات الوهم وانشغالات النفس السادرة في حمأة الغفلات، وما تنسجه حوله عناكب الفحشاء والمنكر والبغي والحسد والبغضاء ومكر السيء.
أولئك الذين أغفل الله قلوبهم عن ذكره واتبعوا أهوائهم وأمرنا أن نعصيهم ولا نطيعهم كما قال الله تعالى آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين من بعده: ولا تطع من اَغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا.
“وكان أمره فرطا أي إسرافا وتضييعا”. 3 وأي تضييع أضيع للمرء من ضلال من اتبع هواه بغير هدى من الله وآثر عاجلة شهواته ولذاته على آجلة أخراه.
إنه عمى القلب الذي لا تنفع في علاجه دعوى أننا مسلمون ملتزمون بما ظهر من مراسم الصلاة وسائر فرائض الإسلام.
لنفرض أن الدعوى صادقة وأن إسلام الدعي لا تشوبه شوائب مما يراه الناس ويلمسونه. فهل يغني ذلك في الدين وحقائقه؟ وأين علانية ما تظاهر به الدعي أو أظهره بنية صادقة من بواطن ما في القلب وما تكنه الجوانح. وأين الإسلام من الإيمان؟ وما إسلام الظاهر إلا الدرجة الدنيا من الدين، يرتقي منها صاحب الهمة المتطلعة إلى ما عند الله عز وجل خطوة خطوة في معارج الإيمان فمراقي الإحسان.
إن المسلم قارئ القرآن الصادق في توجهه لساحات الفضل ومنابع الخير عند ربه عز وجل ينتهي به سلوكه إلى الرجاء الواثق بما وعد الله عز وجل عباده الصالحين حين ينادي الإنسانَ ربه ويؤيه به: ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه و حين يؤنبه تأنيبا لطيفا رحيما في قوله تعالى: يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك.
إنه تذكير العلي العظيم سبحانه لهذا المخلوق المنكفئ على دنياه يحتضنها وتحتضنه.
إن لم يكن للإنسان أذن قلبية مرهفة حساسة يسمع بها آيات الله يتلوها هو أو تتلى عليه ويعظم ويجل ويتواضع لجلال الله سبحانه وتعالى فما أبعده وما أكفره لنعم مولاه.
ويحتال الداعي إلى الله من بني الإنسان فيخاطب ابن جلدته متوجها إليه ينشد عنده مزية من مزايا العقل الفطن ينبهه إلى قيمة الإنسان وما يدخره الله عز وجل في العقبى من نعيم مقيم إن هو استجاب لربه وقدر القيمة العزيزة لمن خلق الله عز وجل أباه الأول من سلالة من طين وأخرجه هو إلى الوجود من ماء مهين.
أيخاطب الغافل عن الله من جانب عقله وتمييزه أم يلزم أن ناخذ الحيطة لكي لا ينفلت مخاطبنا إلى ما ألفه من استنامة لمهاد الاسترخاء على وسادة غفلته .
ذاك ما نبه إليه الإمام ابن القيم رحمه الله في عبارات جميلة قال: اعلم أن العبد، قبل وصول الداعي إليه، في نوم الغفلة. قلبه نائم وطرفه يقظان. فصاح به الناصح، وأسمعه داعي النجاح، وأذن به مؤذن الرحمان: حي على الفلاح. فأول مراتب هذا النائم اليقظة والانتباه من النوم.(…))
قال: القومة لله هي اليقظة من سِنة الغفلة، والنهوض عن ورطة الفترة. وهي أول ما يسْتنير قلب العبد بالحياة لرؤية نور التنبيه. وهي على ثلاثة أشياء: لَحْظُ القلب إلى النعمة، على اليأس من عدها، والوقوف على حدها، والتفرغ إلى معرفة المِنّة بها، والعلم بالتقصير فيها).
نكون قد خطونا خطوة مهمة بالإنسان إن أشعرناه بأن فتور همته وارتخاء إرادته ورطة ونزول وأن غفلته عن الله سنة وذهول وأن النهوض من ورطته رهن بانتفاضة إرادية يحيد بها العبد الصادق الذي اكتسى من الإسلام سربالا و نال من ومضات الإيمان منالا، فإذا بنور العلم يشع على دربه فيلحظ قلبه النعمة التي وعدها الله المتقين فيشمر عن ساعد الجد ليقوم قومته إلى الله عز وجل ملبيا داعي الفلاح الذي يؤذن آمرا الرسول صلى الله عليه وسلم: قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى.
حتى إذا أنسنا من غافلنا رشدا ووجدنا من تلقائيته المستيقظة سندا خاطبناه بالتوبة وشروطها الشرعية وما تفتحه للعبد من آفاق التدرج إلى كمال إنسانيته والنور الأبدي في آخرته. وما أعظمه طلبا أن يغنم المقبل على ربه بسطة الرحمة الإلهية لعباده ليسلك إلى باب رحمة ربه مصلحا ما كان أساء بجهالته وغفلته بتوبة تنتظمه فيمن بشر الله عز وجل به من عباده التائبين المومنين في مثل قوله عز وجل: التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر و الحافظون لحدود الله وبشر المومنين. 4
وهي مدرجة من رجعة عن الغي والجهالة إلى طريق الهدى والاستقامة,
رجعة لها شروط شرعية يلخصها لنا الفقيه العلامة عبد الواحد بن عاشر رحمه الله في أرجوزته الفقهية الشهيرة، قال رحمه الله:
وتوبة من كل ذنب يجترم تجب فورا مطلقا وهي الندم
بشرط الإقلاع ونفي الإسرار وليتلاف ممكنا ذا استغفار
ما من عبد يستهين بقيمته الإنسانية وينسيه الشيطان ذكر ربه فينغمر في ملذات هواه ثم يتذكر أن باب التوبة والإنابة مفتوح في وجه المذنبين، إلا وقد أوشك أن يعمه الله بفضله فإن الرب جل وعلا قريب مجيب يفرح بتوبة عبده كما قال تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. وكما قال رسوله صلى الله عليه وسلم:” لَلّه أفرحُ بتوبَة عبده المومن من رجل نزل في أرض دوِّيَّةٍ (قاحلة) مهلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه. فوضع رأسه فنام نومة. فاستيقظ وقد ذهبت راحلته. فطلبها، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش -أو ماشاء الله- قال: أرجعُ مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت. فوضع رأسه على ساعده ليموت. فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، عليها طعامه وشرابه. فالله أشد فرحا بتوبة العبد المومن من هذا براحلته وزاده.”
كيف لا يتنفس العبد المثقل بذنوبه ورزاياه عندما يتلقى هذه البشارة العظمى فيحمد مولاه ويفرح به. يا لفرحة المومن إن حمله على التوبة الحياء من كرم الله عز وجل قبل أن يصرفه عن زيغه الخوف من عقابه عز وجل، فإن لنفس المسلم الذي لما ترسخ قدمه في بساط العبودية توبة الخوف من العقاب كما أن لنفس المومن التقي الكريم على الله توبةً كريمة باعثها الحياء من الله عز وجل.
باب التوبة مفتوح. يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله: اغتنموا باب التوبة وادخلوا فيه ما دام مفتوحا. اغتنموا باب الدعاء فهو مفتوح لكم. اغتنموا باب مزاحمة إخوانكم الصالحين فهو مفتوح لكم. يا قوم ! ابنوا ما نقضتم، اغسلوا ما نجستم، أصلحوا ما أفسدتم، صَفّوا ما كدّرتُم، رُدوا ما أخذتم، ارْجعوا إلى مولاكم عز وجل في إِبَاقِكُم وهربكم).
للشيخ عبد القادر رحمه الله اصطلاح للتوبة الكبرى التي تنقل الإنسان من عالم إلى عالم. يسميها قَلْب دولة. يَقلب الإنسان دولة نفسه فيُحكم فيها الشرع لا الهوى.
قال رحمه الله: اهجر طبعك وهواك وشيطانك ولا تَركَنْ إليهم. إذا ثبت هذا فاجعل بينك وبين أقران السوء عداوة ولا تصادِقهم حتى يوافقوك في حالك. التوبة قلب دولة. من تاب ولم يغير ما كان عليه قبل التوبة فقد كذب في توبته).
ويقول: توبوا بقلوبكم ثم بألسنتكم. التوبة قلب دولة. تقلِبُ دولة نفسك وهواك وشيطانك وأقرانك السوء. إذا تُبتَ قلبت سمعك وبصرك ولسانك وقَلبك وجميع جوارحك. وتُصفّي طعامك وشرابك من كَدَر الحرام والشبهة. وتتورع في معيشتك وبيعك وشرائك. وتجعل كل همك مولاك عز وجل.قال: “تزيل العادة وتترك مكانها العبادة. تزيل المعصية وتترك مكانها الطاعة(…) فحينئذ يكون ظاهرك محفوظا وباطنك بربك عز وجل مشغولا. فإذا تَمّ لك هذا فلو جاءت إليك الدنيا بحذافيرها ومكنتك منها، وتبِعك الخلق بأجمعهم من تقدم منهم ومن تأخر لَمْ يَضرك ذلك ولم يغيرك عن باب مولاك عز وجل).
يقول الاستاذ المرشد رحمه الله تعالى: هذه التوبة الكبرى هي يقظة القلب وتحفّز الإرادة إلى استكمال الإيمان وقرع أبواب الإحسان).