قوامة وحافظية

ما إن تهدأ الأحياء وتستريح من ضجيج أبواق السيارات ودقات الطبول وجميع تعبيرات الفرحة بالزواج الميمون، حتى يرفع الستار على مشاهد أخرى، صراخ، شجار، كسر الأواني… أسرة في بداية الطريق تصطدم بالواقع وتبدأ رحلة عذاب نهايتها بيد قاضي الأسرة ليسدل الستار على أم تحمل في يدها ورقة الطلاق وفي بطنها جنين في بداية التكوين وأمامها المصير المجهول.
مشهد متكرر، واقع مرير، واقع مجتمع مفكك بتفكك أسره، وإن نحن حاولنا البحث عن الأسباب غصنا في بئر لا قرار لها من المشاكل والأسباب والمعوقات التي تحول الزواج إلى جحيم والأصل فيه أنه آية من آيات الله، يقول جل وعلا :ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون 12 السكن والمودة والرحمة، مشاعر هي الأصل في العلاقة الزوجية لا المشاحنات والمشاجرات والأحقاد. السكن اطمئنان شق البشرية للشق الآخر، ومودة ورحمة تكامل من أجل استمرار النسل البشري وتحقيق الاستخلاف في الأرض، وليس صراع بين طرفين أسسا بنيانهما على شفا جرف هار فهو مهدد بالانهيار، فإذا كان أساس البنيان هشا سرعان ما تفتح الأبواب على مصراعيها أمام الممارسات الخاطئة مما يهدد كيان الأسرة والأمة معا بحيث يستعمل كل طرف ما يبيحه لنفسه من أسلحة ليظهر قوته ويثبت ذاته، فالرجل من جانبه يشهر في وجه المرأة سلاح القوامة والدرجة والطاعة، والمرأة في المقابل تستعمل سلاح الحيل والمكائد والشعوذات لتحمي نفسها.
فهل المنطلق عند أخذ القرار والاختيار هو المودة والرحمة والسكينة، أم أن الزواج كان هدفا في حد ذاته لم يستحضر فيه الأصل : عمارة الأرض وعلاقة مودة ومحبة في الدنيا تمتد إلى الآخرة لمن كانت التقوى باعثهما ورضى الله منيتهما وما عند الله خير وأبقى لهما.
يقرأ بعض الأزواج قول الحق سبحانه :الرجال قوامون على النساء بما فضل الله به بعضهم على بعضويقف عند هذا الحد وقوفه عند فويل للمصلين ويتلو قول الحق سبحانه وللرجال عليهن درجةفيمضي يمارس القوامة سلطة واستبدادا وقهرا، أو يقرا في التفسير أن القوامةتأديب المرأة وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية ) 13 فلا يعرف لغة غير الضرب والأوامر وما عليها هي إلا الطاعة ما لم تتجاوز الخط الأحمر : المعصية. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين في هذا المعنى: “وقد يكون الرجل ممن قرأ بعض التفاسير فوجد أن بعض الفقهاء يجيزون الضرب ما دون كسر العظام. أو يقرأ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر النساء بطاعة الأزواج فيتخذها متكئا لتعسفه وتأمره وظلمه، والله عز وجل ما أعطى القوامة للرجل ليظلم، تعالى رب العزة عن ذلك وهو الذي حرم الظلم على نفسه وأمرنا ألا نتظالم.
القوامة أمانة ومسئولية، جاء في لسان العرب :إنما هي من قولهم قمت بأمرك فكأنه، والله أعلم، الرجال متكلفون بأمور النساء معنيون بشؤونهن) 14 وجاء في تفسير القرطبي :أي يقومون عليهن والدب عنهن) 15
شرط القوامة النفقة والرعاية والقيام بالأمر، معاني لا تنفك عن معنى السكينة والمودة، والمعاشرة بالمعروف لا تتأتى بتحقيق الكفاية من الطعام والشراب والملبس والمسكن فقط، بل الأمر أعمق من ذلك، مشاعر دافئة متبادلة، وإحساس بالمسؤولية العظمى الملقاة على عاتقهما.
كما أن الدرجة التي يتبجح بها الرجل ليست مكانة يتبوؤها الرجل ليستعلي على المرأة ويدوس كرامتها ويهينها، فسر ابن كثير الدرجة بأنها في الفضيلة والخلق والخلق والمنزلة وطاعة الأمر والإنفاق والقيام بالمصالح والفضل في الدنيا والآخرة) 16 ويقول الأستاذ عبد السلام ياسين معلقا:بعبارة موجزة فهي “مواطنة” من الدرجة الثانية في الدنيا والآخرة. وهذا يصادم صدر الآية التي جعلت )لهن مثل الذي عليهن بالمعروف 17 ويصادم فيما يرجع لفضل الآخرة قوله تعالى مخبرا عن السعداء أولي الألباب : فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى 18
المرأة بدورها قد تكون معول هدم في برج السكن، إن غابت عنه وغفلت عن المسؤولية الموكولة إليها والمتمثلة في حفظ كل ما غاب عن عين الرجل فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ اللهأي غيب بحفظه تنال المرأة درجة الصالحات؟ جاء في مسند أبي داود الطيالسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:“خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك”وجاء في جامع البيان في تفسير الآية:يعني حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن عنهن في فروجهن وأموالهن وللواجب عليهن من حق الله في ذلك وغيره) 19 فهي بحفظها لحقوق زوجها تنطلق من حفظ حقوق الله وحافظية الصالحات القانتات في المجتمع المسلم لا تقتصر على شغل بيوتهن وإرضاء أزواجهن، بل تنطلق أولا من إرضاء الله عز وجل وترجع إليه) 20 الله عز وجل فرض القوامة على الرجل، وفرض على المرأة في المقابل الحافظية، حتى يحقق كل منهما التكامل المرجو والقوامة التي فرضها الله على الزوج هي أخت الحافظية التي فرضها على الزوج الآخر) 21
نساءنا حائرات بين نارين : نار التغريب المغري بجنة الحرية والمساواة، ونار القهر والاستبداد الرجولي المتلبس بالإسلام والإسلام منه براء. تتحطم آمال المرأة ومشاعرها حين تصطدم بخشونة زوج يشهر في وجهها آيات وأحاديث ما علم تفسيرها والحكمة منها، فتتمرد على القوامة والدرجة والطاعة لتسبح ضد التيار، مشحونة بدعايات كاذبة روج لها دعة التحرير والمساواة الذين وجدوا في سلوكيات المسلمين ما يبررون به ادعاءاتهم وأباطيلهم على الإسلام، فكانت المرأة الضحية مرتين : ضحية زوج تفرعن وتأله حين سمع وللرجال عليهن درجةفحسبها درجة استعلاء لا مسؤولية، وضحية دعاة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (حق أريد به باطل) فضاعت هويتها وغزيت الأسرة حين فرطت في مسؤولية الحافظية الملقاة على عاتقها.
منهاجنا النبوي رسم لنا خطى السعادة دنيا وأخرى، نعود إلى التوجيهات النبوية نهتدي بها في حياتنا، روى الترمذي عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
“خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :“لا يفرك مومن مومنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر”وأثر عن سيدنا عمر أنه قال :ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا التمسوا ما عنده وجد رجلا)قولة أمير المومنين عمر توصي بمزج اللين والقوة، وهو فن عسير… فربما يسف ويهدر رجولته بالتنازلات والمرأة تريد ركنا قويا في بيتها تطمئن إليه، وربما يشتد ويقسو ثم لا يعرف بعد الصعود على السلم من أين النزول) 22 العلاقة الزوجية ما كان الرباط فيها خشية الله وتقواه دامت وتعمقت، وما إن تعصف بها رياح الأنانيات تدخلها الشياطين فتفسد ما بين الزوجين ويتهدم العش على من فيه فلا قرار ولا استقرار ولا سكينة.
[2] تفسير القرطبي : ج 5 ص 169.
[3] لسان العرب : ج 12 ص 503.
[4] تفسير القرطبي : ج 5 ص 168.
[5] تفسير ابن كثير : ج 1 ص 272.
[6] البقرة الآية226.
[7] آل عمران الآية195.
[8] جامع البيان : ج 4 ص 60.
[9] تنوير المومنات : ج 2 ص 90.
[10] تنوير المومنات : ج 2 ص 195.
[11] تنوير المومنات : ج 2 ص 200.
[12] الروم الآية21.
[13] تفسير القرطبي : ج 5 ص 169.
[14] لسان العرب : ج 12 ص 503.
[15] تفسير القرطبي : ج 5 ص 168.
[16] تفسير ابن كثير : ج 1 ص 272.
[17] البقرة الآية226.
[18] آل عمران الآية195.
[19] جامع البيان : ج 4 ص 60.
[20] تنوير المومنات : ج 2 ص 90.
[21] تنوير المومنات : ج 2 ص 195.
[22] تنوير المومنات : ج 2 ص 200.